ثم ظهر إلى جانب الشعر الحر محاولة أخرى وهي إن كانت أقل شأناً منه من حيث الانتشار إلا أنها خطيرة في حد ذاتها ، لأنها ستقلب مفاهيم الشعر ومعاييره رأساً على عقب ، وتخرجه عن مساره التي رسمه له الشعراء والنقاد ليسلك دروباً وعرة ربما لا يحظى فيها بالنجاح والقبول حتى من عامة الجمهور الذين عرفوا الشعر في أبسط صورة وزناً وقافية على أقل تقديره ، بله المثقفين وعشاق الأدب تلك المحاولة التي استحدثها بعض الشعراء وأعطوها شكلاً جديداً يغاير شكل القصيدة العربية القديمة كما يخالفها في شكلها الجديد المعروف بالشعر الحر ، وقد أسموا هذا اللون من الكلام أو النثر " قصيدة النثر " أو " الشعر المنثور " .
وهذا النمط من أنماط النثر لا يمت إلى الشعر بصلة ولا يشاركه في عنصر من عناصره اللهم وجود العاطفة والخيال والتصوير وتلك سمات مشتركة في أي عمل فني .
وقد تعرض الدكتور شوقي ضيف للحديث عن هذا النوع من الشعر ـ وأسميته شعراً تجاوزاً ـ فقال : " هناك نمطان ( من الشعر ) الأول يعتمد اعتماداً كبيراً على قوة الخيال والعاطفة والتصوير ولا علاقة له بالشعر حيث يخلو من الوزن والقافية ، والنمط الثاني يعتمد على قافية متنوعة دون الالتزام بالأوزان الشعرية المعروفة وإيقاعاتها ويشبه في أدبنا ما يعرف بالنثر المسجوع " .
ومما تجد الإشارة إليه بأن كلا النمطين لا يمتان للشعر بصلة إذ يفتقران إلى أبسط معاييره وهو الوزن الذي لا شك أنه العلاقة الفارقة بين ما هو شعر وما هو نثر إلى جانب المقومات الفنية الأخرى التي لا غنى عنها في قصيدة الشعر .
ويبدو أن أول من كتب هذا اللون من النثر المسجوع وأسماه شعراً الشاعر محمد منير رمزي والذي قال عنه السحرتي : " لقد أتحف موسيقى الشعر الحر أحد شباب جامعة فاروق الأول بشعر صاف رومانتيكي غارق في الرومانتيكية " .
ثم يستعرض له نتفاً من ذلك الشعر ، يقول محمد منير رمزي :
" إن الليل عميق يا معبودتي ، لكن أعماقه ضاقت بآلامي .... أحكي له في دمعة أشجاني وأرسل في آذان الصمت أغنيتي .... لكن أصداءها ترتد في ذلك إلى قلبي فيطويها " .
البعض يقول : إن " الشعر الحر عجز ، وليس قدرة "
هل هذه المقولة حقيقية ؟
وهل هناك تمايز بين الشعر العمودي ، والشعر الحر ، وأيهما أفضل ؟
وأنت كأديب ماذا تفضل ؟
هذه بعض التساؤلات وردتني من قرائي على المنتديات الأخرى تتعلق بموضوع الشعر الحر فأثبتها تحقيقا للفائدة واستكمالا للموضوع .
الجواب : يقول الأستاذ / عباس محمود العقاد حول مفهوم التجديد في الشعر بوجه عام " إذا أوجزنا قلنا إن التجديد هو اجتناب التقليد ،فكل شاعر يعبر عن شعوره ، ويصدق في تعبيره فهو مجدد ، وإن تناول أقدم الأشياء " .
ويضيف قائلا " وإذا كان التجديد هو اجتناب التقليد ، فالتجديد هو اجتناب الاختلاف ، والمختلف هو كل من يجدد ليخالف ، وإن لم يكن هناك موجب للخلاف " ومن المفهومين السابقين لمعنى التجديد عند العقاد يتضح لنا أن التجديد هو الصدق في التعبير أيا كان نوع الموضوع الذي يطرقه الشاعر أو المبدع بوجه عام ، كما أنه يعني عدم التقليد والوقوع في أحضان القديم الموروث ، ومحاكاته والنسج على منواله ، وإنما هو عملية خلق وإبداع ، تستمد من ذات المبدع ، وبواطن نفسه ، سواء أكان ذلك التجديد في إطار الأوزان والموسيقا الشعرية ، أم في اختيار الموضوعات والألفاظ التي لم يطرقها الآخرون .
غير أن التجديد عند العقاد لا يعني أيضا الاختلاف الذي يهدف إلى مخالفة المألوف ، والخروج عن الأطر التي ينبغي الوقوف عندها ن وفي تصوري أن في ذلك دعوة من العقاد إلى عدم التحرر الكلي ، أو التمرد الكامل على شكل القصيدة العربية ، بحيث لا تخرج عن الأشكال التجديدية التي سارت في ركابها منذ العصر العباسي ، وحتى الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي ، التي أخذ فيها التجديد للقصيدة العربية منحى جديدا غير الذي عرفه شعراء العربية في عهودهم المختلفة ، والذي عرف فيما بعد بالشعر الحر .
ولم تكن فكرة التجديد والتحرر من قيود القصيدة العربية سواء في أوزانها ، أو قافيتها أمرا جديدا أو مبتكرا عند الشعراء العرب المحدثين ، وإنما الأمر تجاوز ذلك ليعود بنا إلى الوراء قرونا طوالا لنلتقي فيه مع القصيدة الجديدة الشكل في العصر العباسي ، عندما ظهرت موجة التجديد ، والخروج على الشكل التقليدي المألوف للقصيدة العربية في عصورها الخوالي ، وبرز إلى ساحة الشعر بعض الشعراء المجددين ، أمثال بشار بن برد ، ومن تلاه ، ليحطموا جدر الجمود للقصيدة ، ويحاولوا الخروج من أصداف المألوف ، ويبتكروا شكلا حديدا للقافية عرف بالمخمسات الي تتوالى فيه القصيدة في وحدات خماسية الأشطر على أصل الشعر المعروف باسم المسمط . كما تلاه الشعر المزدوج الذي تتوالى في محدات القصيدة ثنائية الأشطر ، بحيث يتحد كل شطرين في قافية موحدة . ثم شاع التجديد في الشعر العربي على أيدي الشعراء الأندلسيين فظهر منه المشطرات بأنواعها ، كالمثلثات والمربعات والمخمسات والمسمطات والموشحات التي طبقت شهرتها الآفاق في ذلك الحين .
وقد تفنن الشعراء المحدثون في عملية التجديد الموسيقي ، وتنوع القوافي ، واهتموا بها اهتماما بالغا ن وأكثر من عني بتطوير الموسيقى الشعرية ، وتفنن في الأوزان والقوافي في العصر الحديث هم شعراء المهجر كجبران ونعيمة وأبي ماضي ، وأبي شبكة وفرحات ، ثم تلاهم مدرسة الديوان ، فمدرسة أبلو ، وما تلاها من المدارس الشعرية المستحدثة الأخرى .
بيد أن هذه المحاولات التجديدية عند الشعراء العرب المجددين لم تتجاوز السطحية المحدودة لتشكيل موسيقا القصيدة ، ولم تتسع لتصل إلى جوهر التغيير الذي شهدته القصيدة العصرية في ثوبها الجديد الذي يتناسب وما كرا على الحياة من مضامين ، وأفكار وتجارب مختلفة ، وما لازمها من أيدلوجيات وانقلابات حضارية فظهر ما عرف بالشعر المرسل الذي قد يكون الفضل في ظهوره للشاعر الدكتور عيد الرحمن شكري ، الذي قال عنه نقولا حنا في مقدمة ديوان شكري كان له الفضل في أن يكون أول من يثور على القافية ، ويرى فيها عائقا على الوحدة العضوية للقصيدة ، فأدخل الشعر المرسل ، وبذلك أسهم في وضع أساس القصيدة العربية الجديدة .
ولم يلبث أن تنادى غير شاعر في أوائل القرن العشرين بالتحرر من القافية التي تقف سدا يحول دون نظم القصائد الطويلة ، فأسرع توفيق البكري فصنع قصيدة بدون قافية أسماها ذات القوافي ، ثم تلاه الزهاوي ، وعبد الرحمن شكري .
أما مفهوم الشعر المرسل فيعني التزام القصيدة ببحر عروضي واحد مع التحرر من عقال الروي أو ما يعرف بالقافية ، غير أن هذا النمط من الشعر لم يكن ذا شأن في تطوير موسيقا القصيدة العربية ، فهو لم يضف جديدا ، بل تشعر فيه برتابة الموسيقا الناجمة عن انفصال البحر العروضي عن موسيقا القافية المختلفة من القصيدة ، وعدم اطراد النغم الموسيقي في أبياتها لشكل وحدة موسيقية واحدة . لذلك لم يكتب له النجاح والانتشار لعزوف الشعراء عنه ، وعم متابعة اللاحق للسابق في هذا اللون من الشعر .
وقد أدى عزوف الشعراء المحدثين عن كتابة الشعر المرسل للبحث عن نوع أخر من أنواع التجديد ، فالتمسوه في نظام المقطوعات الشعرية التي عرفت بالثنائيات ، والثلاثيات والرباعيات والخماسيات ن وقد تكبر المقطوعة وتصغر في القصيدة الواحدة بحسب تنوع الفكرة التي يتطرق إليها الشاعر من خلال الموضوع الرئيس الذي تحويه القصيدة ككل . ويجب أن يكون عدد أبيات المقطوعات في القصيدة الواحدة متساويا ، وأكثر من عني بهذا النوع من الشعر شعراء المهاجر الأمريكية .
ولم تتوقف حركة التطور الموسيقية للقصيدة العربية عند حدود التحرر الجزئي من قيود القافية بل تخطتها إلى أبعد من ذلك ، فظهرت محاولة جديدة وجريئة وجادة في ميدان التجديد الموسيقي للشعر العربي عرفت بالشعر الحر . وكانت هذه المحاولة أكثر نجاحا من سابقاتها ، وتجاوزت حدود الإقليمية لتصبح نقلة فنية وحضارية عامة في الشعر العربي ، ولم يمض سنوات قلائل حتى شكل هذا اللون الجديد من الشعر مدرسة شعرية جديدة حطمت كل القيود المفروضة على القصيدة العربية ن وانتقلت بها من حالة الجمود والرتبة إلى حالة أكثر حيوية ، وأرحب انطلاقا .
ورغم ظهور هذا النوع من الشعر والذي عرف بالشعر الحر ، أو شعر التفعيلة بقت القصيدة العربية التقليدية الشكل ، ولكنها متجددة في أفكارها ومعانيها ، وصورها ، وألفاظها بقيت لها شعراؤها وقراؤها ومحبوها ، بل وحافظت على مكانتها أمام هذا التيار التجديدي ، وأصبح مقياس التمايز بين النوعين هو قدرة الشاعر على التعبير عن معاناته الحقيقية للواقع الذي تعيشه الإنسانية ، وما تحويه القصيدة من الطاقات التعبيرية التي تشارك في خلقها كل القدرات والإمكانيات الإنسانية مجتمعة وبشكل القصيدة التي يريد ، وتمنحه القدرة على التعبير بحرية مطلقة ليصل إلى تحقيق الغرض الذي يتحدث عنه .
والشاعر الناجح هو الذي يستطيع التوفيق بين اللونين من الشعر ، فقدراته الكتابية تأهله للتعبير عن ذاته ، وخوالج نفسه ، ونقل تجربته إلى المتلقين بوساطة القصيدة العمودية ، أو قصيدة الشعر الحر ، على الرغم أن نظم القصيدة العمودية قد يكون أكثر سهولة من قصيدة شعر التفعيلة ( الشعر الحر ) ، وقد مارس معظم الشعراء المحدثين كتابة النوعين ، وكثير منهم استطاع أن يوازن بين عدد قصائده التي كتبها على صورة القصيدة العمودية ن وبين قصائده التي كتبها على شكل القصيدة الحرة .
أما فيما يتعلق بي كشاعر فلا أرى أن هناك ما يدفعني لتفضيل نوع على آخر ، وقد بدأت تجربتي مع الشعر مبكرة منذ منتصف الستينات ، ولما أتجاوز السابعة عشرة ، وكتبت منذ تلك البدايات القصيدة التقليدية ، وقصيدة الشعر الحر ، والذي كان يفرض عليّ كتابة القصيدة بالشكل الذي تظهر به هو موضوع القصيدة ونوع المعاناة ، ولست أنا الذي أختار ، أو أحدد مسبقا الشكل الذي أريد ، وإن كنت أحيانا أحاول مسبقا تحديد الشكل ، ولكني غالبا لا أوفق في ذلك